التكيف هو تلك العملية المتفاعلة والمستمرة ( ديناميكية ) يمارسها الفرد الإنساني شعوريا أو لا شعوريا ، والتي تهدف إلى تغيير السلوك ليصبح أكثر توافقا مع بيئته ومع متطلبات دوافعه
ونلاحظ من هذا التعريف النقاط التالية :
1ـ إن التكيف إجراء أوسلوك Behavior يقوم به الفرد في سعيه لإشباع حاجاته والتلازم مع ظروف معينة
2ـ إن هذا الإجراء أو السلوك يشمل إحداث تغيير في بيئتي الفرد ، الذاتية ( بناؤه النفسي ) والخارجية ( الطبيعة والاجتماعية )
3ـ المحيط الذي يتكيف الفرد معه ، يقسم إلى ثلاثة أنواع وهي :
أ ـ المحيط الذاتي ( الداخلي ) وهو البناء النفسي للفرد ( شخصيته ـ حاجاته ـ دوافعه ـ اتجاهاته )
ب ـ المحيط الخارجي بقسميه
الاجتماعي ( الأسرة ، المدرسة ، شبكة العلاقات والتفاعل الاجتماعي في المجتمع ) والطبيعي المادي ( المناخ ، الوديان ، التضاريس ، الأدوات )
ويكون الغلبة في المحيط الذاتي أو النفسي ، للتكيف النفسي Psychological Adjustment في حين تكون الغلبة في المحيط الخارجي للتوافق الطبيعي البيولوجي Biological Adaptation إن أبعاد البيئة الثلاثة متداخلة في الواقع وتؤثر جميعها في حياة الفرد وتحدد أسلوب تكيفه معها ويمكننا أن ننظر إلى التكيف من زاويتين ، من حيث هو عملية ، ومن حيث هو إنجاز .
أولا ـ التكيف باعتباره عملية Process :
حيث يحمل كل فرد حاجات متعددة ، ويعمل باستمرار على إشباعها ولو تم إشباعها كلها بطريقة سهلة ، لما كان هناك داع لعملية التكيف إن هذه الحاجات والدوافع في الواقع دينامية وحركية ، إنها تحرك السلوك باستمرار ومن الصعب للفرد إشباعها ، وقد يعترضه في ذلك عقبات شتى بعضها ذاتي ( داخل الفرد ) وبعضها خارجي( من المجتمع والمحيط الطبيعي ) وإذا استطاع الفرد إشباع حاجاته فإن حالة التوتر تنتفي عنده ويشعر بالرضا والطمأنينة ، وإذا فشل فإنه يبذل محاولات أخرى وأساليب أخرى مثل : الانسحاب ، والتبرير ، واليأس ، أو إتباع أي أسلوب غير سوي ( مرضي ) وفي هذه الحالة الأخيرة يكون التكيف السيئ دليل اعتلال الصحة النفسية ، ودليل اضطراب الشخصية
ثانيا ـ التكيف كنتيجة أو إنجاز
أولا كانت نظرتنا للتكيف كعملية ، أي السلوكيات وردود الأفعال المتكررة التي تصدر عن الشخص ليحقق الانسجام المطلوب ، ولكن الآن ننظر إلى التكيف من حيث أنه نتيجة أيضا فهل هو جيد أم سيئ ؟ هل هو حسن أم غير ذلك ؟ ، فإذا كان التكيف حسنا وحقق الانسجام والتآلف المطلوب فإنه دليل على الصحة النفسية ، أما إذا كان سيئا ولم يح
قق التآلف المطلوب فإنه دليل على الشذوذ النفسي واعتلال الصحة النفسية
أبعاد التكيف ومجالاته :
يمكن النظر إلى التكيف من حيث أبعاده ومجالاته المتنوعة ، كما يلي :
1ـ التكيف الشخصي
ويشمل السعادة مع النفس والرضا عنها ، وإشباع الدوافع الأولية ( الجوع والعطش والجنس والراحة والأمومة ) والثانوية المكتسبة ( الأمن والحب والتقدير والاستقلال ) وانسجامها وحل صراعاتها ، وتناسب قدرات الفرد وامكاناته مع مستوى طموحه وأهدافه.
التكيف الاجتماعي
ويشمل السعادة مع الآخرين والالتزام بقوانين المجتمع وقيمه والتفاعل الاجتماعي السوي ، والعمل للخير والسعادة الزوجية ، والراحة المهنية ، ويظهر هذا النوع من التكيف في المجالات التالية :
في الدراسة
ويطلق عليه اسم التكيف الدراسي ، أي نجاح الفرد في المؤسسات التعليمية والنمو السوي معرفيا واجتماعيا ، وكذلك التحصيل المناسب ، وحل المشكلات الدراسية مثل : ضعف التحصيل الدراسي
في الأسرة
ويطلق عليه اسم التكيف الأسري ، وهو أن يسود الوفاق بين الزوجين ، وأن تكون العلاقات قائمة على المودة والمحبة والتعاون ، ويتضمن هذا التكيف منذ البداية ما يسمى بالتكيف الزواجي Marriage Adjustment المتعلقة أساسا باختيار الشريك ، وتجانس مستوياتهما الفكرية والثقافية والاجتماعية والعمرية
في العمل
ويطلق عليه اسم التكيف المهني Voacational Adjustment : ويتضمن اختيار الشخص للمهنة أو العمل الذي يناسب قدراته واستعداداته ، وتقبلها ، ورضاه عنها ، ومحاولاته المستمرة لتطويرها والإبداع فيها وشعوره بالسعادة والرضا أيضا
العوامل الأساسية في التكيف
هناك عدد كبير من العوامل المتداخلة في عملية التكيف والمؤثرة فيها ، بعضها ذاتي متعلق بالحياة النفسية والبيولوجية والجسمية للفرد ، وبعضها الآخر خارجي ، من البيئتين ، الطبيعية والاجتماعية
1ـ المهمات النمائية
وهي الأشياء التي يتطلبها النمو النفسي للفرد والتي يتعلمها حتى يعيش بسعادة واطمئنان ، ويعبر مرحلة النمو بسلام ولكل مرحلة من مراحل النمو ( الطفولة الأولى ، والمتوسطة ، والأخيرة ، والمراهقة ، والرشد ، والشيخوخة ) مطالب خاصة بها وكلما حقق الفرد مطالب المرحلة الأولى السابقة سهل عليه تحقيق مطالب الثانية وهكذا إن عدم تحقيق مطالب النمو التي سنذكرها الآن يؤدي إلى سوء التكيف
المهمات النمائية في مرحلة الطفولة
المحافظة على الحياة ، تعلم المشي ، تعلم الكلام وضبط الإخراج ، واللعب ، وتعلم القراءة والكتابة والحساب ، والمهارات الإدراكية والعقلية اللازمة للحياة وقواعد السلامة ، وتكوين علاقات اجتماعية ، والتمييز بين الصواب والخطأ
المهمات النمائية في مرحلة المراهقة
نمو مفهوم سوي للجسم ، وتقبل الجسم والدور الجنسي ، وتكوين المفاهيم العقلية الضرورية ، وتحمل المسؤولية ، والاختيار للمهنة المناسبة وتحقيق الاستقلال والاستعداد للزواج
المهمات النمائية في مرحلة الرشد
تقبل التغيرات الجسمية ، واختيار شريك الحياة ، وتكوين الأسرة ، وتربية الأطفال ، وممارسة مهنة والرضا عنها ، وتكوين علاقات اجتماعية ومناشط
المهمات النمائية في مرحلة الشيخوخة
تقبل الضعف الجنسي ، ومواجهة المتاعب التي يمر بها ، والقيام بالمناشط المناسبة ، والتكيف مع التقاعد ، والاستقلال عن الأولاد ، وتكوين علاقات اجتماعية مع رفاق السن
2ـ الدوافع الأولية والثانوية
الدافع هو حالة جسمية ونفسية داخلية يوافقها توتر داخلي يوجه الكائن الحي نحو أهداف معينة تشبع الدافع وتسد النقص ( الحاجة ) لكي يعود لحالة السوية
والدوافع لا يمكن ملاحظتها ، وإنما نلاحظها من خلال أثارها ومظاهرها في السلوك ، لذلك نسمي الدافع ( تكوين فرضي ) والدوافع نوعان وهما :
أ ـ دوافع أولية وتسمى عضوية
وهي التي يولد الفرد وهو مزود بها ، وإشباعها ضروري للحفاظ على البقاء وهي مشتركة بين الإنسان والحيوان ، ومنها : دافع الجوع ، والعطش ، والجنس ، والراحة
ب ـ دوافع ثانوية
التي تكتسب من البيئة الاجتماعية ، وضرورية للتكيف النفسي ، ومن هذه الدوافع : الحاجة للحب والتقدير ، الانتماء ، المعرفة ، الاستقلال وبشكل عام يمكن القول : أن إشباع هذه الدوافع له دور هام في عملية التكيف ، فإذا فشل الفرد في ذلك كان عرضة للتوتر وعدم الاتزان ، وهذا يؤدي مع التكرار إلى اضطرابات نفسية متنوعة ، واعتلال الشخصية فعندما لا يشبع الفرد الجوع مثلا ، وتطول مدة إعاقته فإن ذلك يؤدي إلى سلوك عدواني لفظي أو جسدي ، كما أن عدم إشباع حاجة الطفل للحنان والحب قد يدفعه إلى مرافقة رفاق السوء ، أو الانزواء وهكذا
3ـ العوامل الفسيولوجية
وهي كثيرة بعضها متعلق ببنية الجسم وما يحمله من استعدادات وأمراض ، وبعضها ما يطرأ على الفرد من حوادث تؤثر فيه فالوراثة تلعب دورا هاما في ذلك ، فقد يحمل الأب استعدادا مرضيا من والديه أو استعدادا للإصابة بعاهة معينة وتنتج العيوب والصفات الوراثية غير المرغوب فيها نتيجة التغيرات التي تحدث في الجينات والكروموسومات مما يؤثر في عملية التكيف ويؤدي لظهور أمراض وراثية وهناك عوامل فسيولوجية متدخلة في التكيف وتعود إلى الغدد ذات الإفراز الداخلي التي تعمل في نمو الفرد وحساسيته وتطور مزاجه ، ومنها ما يعود إلى نشاط الجسم وتعبه مما يغلب عليه ، أو مما يكون طارئا ثم إن من بين العوامل ما يعود إلى صدمات أو إصابات تنال الرأس وما يضمه ، أو تنال جهازا من أجهزة الجسم المتعددة ولعل من اللازم الإشارة هنا إلى ما يحتمل أن ينال الجنين من إصابة أو مرض مما تبقى أثاره إلى فترة الحياة بعد الولادة ، وكذلك إلى ما يصيب الأطفال في مطلع حياتهم من أمراض تبقى آثارها في السمع أو البصر أو الجهاز العصبي أو العضلي أو غير ذلك وعن المجرم بالولادة ذكر ( سيزار لومبروزو Cesare Lombroso ) فيما كتبه أن هناك أمثلة متعددة تدعم القول بوجود من يولد مجرما ، أي من يحمل بناءً جسميا منحرفا يدعو إلى أن يكون مجرما وإذا كان الاتجاه المعاصر يذهب في موقفه من هذه النظرية إلى أنها لا تعتمد على أساس علمي كاف ولا تؤيدها الوقائع ، فإن التأكيد ما يزال قائما على وجود مكانة مهمة في التكيف لمجموعة العوامل التي تأتي مع المولود من مرحلة ما قبل الولادة وفي نظريات الأنماط المنطلقة من بناء الجسم في تحديد طبيعة الشخصية وقائع متعددة تدعم مثل هذا التأكيد
4ـ مرحلة الطفولة وخبراتها
تعتبر مرحلة الطفولة من المراحل الهامة لأنها مرحلة تكوين الشخصية وكل ما يمر به الطفل من خبرات وتعلم ستظهر أثاره في سلوكه وشخصيته لذلك يرجع علماء النفس ، والمعالجون النفسانيون إلى هذه المرحلة بالبحث والاستقصاء حين مواجهتهم حالة سريرية فكثير من الاضطرابات النفسية يمكن إرجاعها لمرحلة الطفولة فقد يعاني الطفل حالة من الحرمان من رعاية الأم ، سواء كان حرمانا كاملا أم جزئيا ، أو حالة خوف مبكر أو أسلوبا سيئا في الأوضاع مثل : ( أخذه من السرير بقسوة وقوة حين يبكي ، أو عدم احتضانه أو إطعامه بسرعة ) فهذه كلها تخلف أثارا سيئة في تكيفه اللاحق إن الكثير من حالات الجنوح والتخلف العقلي والدراسي والإدماني تثبت أهمية مرحلة الطفولة في التكيف وتحديد نوعيته أو نتيجته .
5ـ المظاهر الجسمية والشخصية
وهي المرتبطة بمظهر الجسم وصفاته وما فيه من إعاقات أو أمراض غير مألوفة أو غير مستحبة ، مثل الطول المفرط أو القصر المفرط ، أو عاهة بالأطراف ، أو قبح الوجه ، إن كل هذه المظاهر تخلف أثارا واضحة في تكيف الشخص ، أبرزها شعوره بالنقص إن هذه المظاهر والعوامل تؤثر بطريقة غير مباشرة لأن العامل المباشر فيها هو تقييم الناس لذلك ، أي إدراك الفرد لما يؤثره الآخرون ويفضلونه وما يكرهونه ، وإدراكه أن ما يفضله الناس غير موجود عنده ويدخل في هذه العوامل القدرات العقلية ، والسمات المزاجية عند الفرد فانخفاض نسبة الذكاء مثلا يؤدي عند الفرد إلى الكثير من حالات سوء التكيف مثل : الانعزال والعدوان ، كما أن السمات المزاجية المتعلقة بدرجة التنشيط والكف في الجهاز العصبي وخاصة التكوين الشبكي تلعب دورا هاما في أشكال السلوك التكيفية عند الفرد ولا بد أن نذكر أثر العوامل الاجتماعية ، وخاصة المستوى الاجتماعي والثقافي ودور السينما والتلفزيون ووسائل الإعلام عموما وخاصة في العصر الذي نعيشه .
التكيف في علم الاجتماع
كثيرا ما تستعمل كلمة التكيف في علم الاجتماع حين دراسة تكون العصابات والزمر ، وعلاقات الأفراد مع الجماعة ، أو علاقات الجماعات الصغيرة مع بعضها أو مع الجماعة الكبيرة فقبول الأفراد أو الجماعات ( قبول الراضي أو قبول الخاضع ) ما تقول به الجماعة الكبيرة أو تشير به هو عملية تكيف وقبول الطفل تدريجيا ما يطلب منه في المدرسة أو في البيت عملية تكيف ، وكذلك الأمر في تكيف المهاجر من بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى جديدة عليه وإن عددا غير قليل من الدراسات الاجتماعية قد جعل من هذا التكيف موضوعا له حين اهتم بدراسة اللاجئين ، أو دراسة التمييز العنصري ، أو دراسة الكتل الغريبة التي تعيش ضمن مجتمع كبير مختلف عنها في عدد من النواحي
التكيف في علم النفس
ينظر علم النفس بصورة عامة إلى موضوعه من زاويتين أساسيتين وهما :
الأولى ـ دراسة الوظائف النفسية المختلفة التي تظهر لدى الإنسان ، وهو ها هنا يدرس مثلا ، الإحساسات ، والدوافع ، والعواطف ، والمحاكمات ، والتعلم ، والتخيل ، والإدراك ، يدرسها دراسة تحليلية ويقصد منها الوصول إلى القوانين أو المبادئ العامة التي تضبط تفسير سير كل منها وهكذا يكون الإنسان مجموعة من الوظائف أو المظاهر أمام هذا النوع من دراسة السلوك
الثانية ـ دراسة الإنسان من حيث هو كل يعمل إنها دراسة الإنسان من حيث هو شخصية فريدة تعمل في شروط محيطية ، ولا تكون دراسة العناصر التي ينطوي عليها شخصه إلا نوعا من التجريد أو العزل المقصود يذهب إليه الباحث بغية الكشف عن جوانب الإنسان المختلفة ، علما بأن هذه العناصر لا توجد أبدا وحدها ، وإنما تكون دائما في تعاون مستمر فيما بينها ضمن وحدة الشخصية
فإذا أخذنا الأمر من الزاوية الثانية ، ولاحظنا سلوك الشخصية ، رأينا أنها تعمل باستمرار وراء التلاؤم مع شروط العالم الطبيعي ، والتكيف مع مطالب الدوافع الشخصية ومطالب العالم الاجتماعي فالإنسان يسعى وراء لباس خاص أمام البرد ، ووراء سلوك خاص حين يداهمه الهواء الشديد أو تفاجئه الرياح ، أو الأمطار ثم إنه يسعى وراء إشباع عدد من الدوافع التي تظهر لديه على شكل حاجات شخصية ، وليست محبة المطالعة إلا واحدة منها ، ويسعى كذلك بقوة وراء التكيف فيما يتعلق بما تطلبه الجماعة.