كيف نستطيع أن نحفظ المعلومات بشكل أسرع وأشمل؟ إنها مسألة مهمة. فمنذ سنوات بدأ الخبراء يدرسون كيفية رفع كفاءة وسرعة التعلم، فمن أكبر التحديات التي تواجه التعلم قدرتنا على حفظ المعلومات. لكن كيف تعمل ذاكرتنا؟ وهل بالإمكان تحسينها؟ لماذا لدى بعض الأفراد القدرة على التعلم السريع؟ هل سمعت عن أشخاص يتكلمون أكثر من ثماني لغات؟ هل شاهدت من يقوم بعمليات حسابية كبيرة بدون آلة حاسبة؟ حسنا، إن القصة ليست أن هؤلاء الأشخاص أذكياء أو لديهم قدرة خارقة على الفهم والاستيعاب أكثر من أن تعلمهم والطرق التي يستخدمونها أفضلُ بل مختلفة عن الأغلبية، فهم يستخدمون تقنيات مختلفة عن تلك الأساليب والتقنيات التقليدية المستخدمة في رياض الأطفال والمدارس والجامعات.
ويحاول هذا المقال استعراض مفهوم التعلم السريع، وأسسه، ونشأة مفهومه وتطوره، وكيفية حدوثه، وأخيرا التطبيقات التربوية للتعلم السريع مع طفل الروضة.
أولا: مفهوم التعلم السريع The Accelerated Learning
التعلم السريع هو تعلمٌ طبيعي، فهو ببساطة الطريقة التي يتعلّم بها أيُّ طفل. فهل تجد طفلا يتعلم كأخيه أو كأقرانه تماما، قد يكونون متشابهين في بعض الأساليب ولكن لكلٍ منهم صبغته وتجربته الخاصة.
وقد برز مفهوم التعلم السريع كثورةٍ في التعليم في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد استقى بداياته من التجارب التي حصلت سابقاً. وهو أحدث ما توصل إليه البحث في عالم التعليم و التدريب اليوم، وقد اعتمد على البيولوجيا في مجال دراستها للدماغ البشري ومقدرته على التعلُّم.
وهذا النوع من التعلّم لا يبني التعليم معتمدا على القوالب الجاهزة الصلبة، إنما يترك المجال واسعا مرنا وفقا لأهداف الهيئات المسؤولة عن التدريب، والحقائب التدريبية، وطبيعة المتدربين ومستوياتهم الفكرية أيضا.
ثانيا- كيفية حدوث التعلم في ضوء مفهومي التعلم التقليدي والتعلم السريع:
هناك الكثير من الجوانب المتعلقة بعمل الدماغ لم يتمكن العلماء من فهمها بعد، إلا أن ما تم اكتشافه حتى اليوم يكفي ليُقدم لنا بشكلٍ لا شك فيه نقضا للكثير من نظريات التعليم التي ما زالت سائدة منذ حقبة مضت.
ركز التعليم التقليدي على الرأس، واعتبر أن العملية كلها تحدث في بنك المعلومات (الدماغ) باعتبارها عملية منطقية، لا علاقة لها بباقي أجزاء الذات، من جسد ومشاعر وإحساسات.
فنشأت بيئات تعليمية تدفع المتعلّمين (صغارا أو كبارا) لتنفيذ مجموعة الأوامر الآتية:
لا تتحركوا، اجلسوا ساكنين، اصمتوا، والآن: تعلّموا!
وفي الواقع واحدة من نظريات العلم التي يغفل عنها الكثير من التربويين تقول بأنّ:
الدماغ كُلٌّ متكامل يتفرع في كل أنحاء الجسم ويعمل كوحدة وظيفية، وتتوزع الذاكرة في شتى أجزائه. فالتعلم والتفكير وفقاً لهذه النظرية هو عمل يقوم به الجسم البشري كاملاً وليس الرأس فقط. فالدماغ والجسد يُعالجان المعطيات بشكل متزامن ووفق سياق كامل وليس بشكل متعاقب وفق تفاصيلَ معزولة!!!
ونحن اليوم بحاجة لاستخدام كامل العقل والذات (الجسد+ المشاعر+الإحساسات) وهذا هو الحل الأمثل لتحقيق تعلم أسرع وأكثر متعة وفاعلية.
فحركة الجسد تُحسِّن أداء العقل وبالتالي ينبغي لنا في بيئات التعليم أن نقول للمتعلّمين:
قفوا، تحركوا، تحدثوا، وتعلّموا!!!
ولا بد من تدريب المتعلّمين على التفكير الذاتيّ وعلى كيفية التعلم والتخيُّل واستخلاص النتائج من خلال القيام بالتجارب والابتعاد عن التخزين البنكي للمعلومات.
كما ينبغي الاهتمام بالمشاعر؛ فعندما تكون المشاعر إيجابية يكون المتعلّم في حالة من الانفتاح مما يُسرِّع التعلم، في حين أن المشاعر السلبية والضغط النفسي يُصيب المتعلّم بالانغلاق، وبدلا من التركيز على التعلم يبدأ في السعي إلى الهروب وهذا ما يُبطئ التعلّم أو يُجمّده إن صح التعبير.
انهض، تحرك، افعل شيئا… لا تجلس ساكنا..
ثالثا- أسس ومبادئ التعلم السريع:
هناك 6 تقنيات أساسيّة يوصي بها الباحثون في مجال التعلّم السريع والتي يمكن إجمالها في كلمة MASTER (انظر الشكل في الأسفل)
1 * قم بتهيئة البيئة أولا Mindset to positive يعمل الدماغ بشكل أفضل عندما نوفّر له البيئة المناسبة للتعلّم. ونعني بالبيئة الجو النفسي والفيزيائي والعاطفي والاجتماعيّ. يوصي التعلّم السريع بتوفير أنسب الظروف البيئيّة في هذه المجالات من أجل تعليم أكثر كفاءة، وأن يخلق المرء لنفسه جوا إيحائيّاً إيجابيّاً عبر الاسترخاء وتحديد الأهداف؛ ممّا يساعد على التركيز.
2 * لا تكتف بمجرّد تلقّي المعلومة بل تفاعل معها:Acquire the Information في دروس البرمجة اللغويّة العصبيّة يتعرّف المرء على أسلوبه المفضّل للتعلّم، فالنّاس قد يتفاوتون بين النمط البصري أو السمعي أو الحسي في إدخال المعلومات من البيئة الخارجيّة إلى الدماغ. ولقد بات معروفا الآن أنّ الاعتماد على نمط واحد في التعلّم يقلّل من كفاءة العمليّة التعليميّة. فنحن نتذكّر 20% فقط ممّا نقرأ و30% ممّا نسمع. لذا يوصي التعلّم السريع بالانغماس الكلي في التعلّم، بمعنى تفعيل أكبر قدر من الحواس أثناء العمليّة التعليميّة. مثلا، ينصح الباحثون عند قراءة كتاب ما أن تتوقّف كلّ فترة لتغمض عينيك، وتراجع ما قرأته من الذاكرة، ثم تردد النقاط الرئيسة وكأنّك تقوم بتدريسها لشخص آخر. ولا مانع من ربط المعلومات ببعض الأنشطة الجسديّة، الأمر الذي يعمل على تحفيز أكبر قدر من الحواس في العمليّة التعليميّة.
3 * ابحث في معنى ما تقرأه: اختبر معلوماتك بين الحين والآخر واسأل نفسك بعض الأسئلة التي تستهدف التأكّد من المعلومة. في كثيرٍ من الأحيان عليك أن تناقش المعلومات التي تمرّ بعقلك وألاّ تتعامل معها كلّها باعتبارها أمراً مفروغا من صحته... ناقش المعلومة بشكلٍ نقدي ومن زوايا متعدّدة ممّا يساعد على ترسيخها بشكلٍ أفضل.
4 * اقدح فتيل ذاكرتك:Trigger the Memory يمكنك أن تردّد المعلومات أكثر فأكثر حتّى تحفظها، يمكنك أيضاً ربط المعلومات بأشياء محدّدة. مثال: سامي له 3 أطفال أسماؤهم كالتالي: هدية، أحمد ودانيا... يمكنك أن تحفظهم جميعاً باسم "سهاد"، مستخدماً الأحرف الأولى من كلّ اسم. يمكنك أيضاً ربط المعلومة الجديدة بالمعلومات القديمة ممّا يساعد على عدم نسيانها أو اخلق لها مرسى محدّدا. كما يمكنك ربط الأرقام بجعلها تبدو وكأنّها في سلسلةٍ واحدة... من الضروري أيضا أخذ قسط من الراحة بين وقتٍ وآخر.
5 * استعرض معلوماتك Exhibit What You Know تحتاج الذاكرة للتمارين تماما كالعضلات، لذا طبّق ما تعرف في حياتك كلّما كان ذلك ممكناً، أو قم باختبار معلوماتك بين الحين والآخر.
6 * قم بمراجعة ما تعلمت Reflect on How You Learned قم بمراجعة ما تعلّمت وكيفيّة تحسين المعلومات التي لم تركّز بعد. حدّد لنفسك الاستراتيجيّات التي تبيّن لك أنّها تساعدك أكثر على التعلّم.
رابعا- التطبيقات التربوية للتعلم السريع مع أطفال الروضة:
هل يستطيع الأطفال ممن هم في الرابعة عشرة من العمر ـ دون الذهاب إلى المدرسة على الإطلاق ـ اللحاق بأقرانهم في أقل من عام؟ إنها مجرد أحلام بالنسبة للكثير من الأطفال خارج المدرسة، بيد أن مشروعاً في إثيوبيا يعمل في هذا الاتجاه.
ففي مدرسة التعلم السريع الأثيوبية يحصل الأطفال الذين لم يلتحقوا بالتعليم وبلغوا الرابعة عشرة على أسس التعليم الابتدائي من خلال نظام التعلم السريع، وهو نظام قائم على المتعة والنشاط باستخدام الألعاب والموسيقى والبطاقات التعليمية. الأطفال يتمكنون من القراءة والكتابة والرياضيات خلال عشرة أشهر فقط، ومن بعد؛ الاختبار النهائي يؤهلهم للانضمام إلى مدرسة ابتدائية رسمية في الصف الرابع.
وفى بريطانيا عام 1998 قد تم الاعتماد في التدريس على استخدام الخرائط المفاهيمية والعقلية لربط المعلومات التي يتعلمها الطفل بصورة بصرية منظمة، ويشجعون الأطفال على تطبيق القاعدة الآتية: لكي ترى الأشياء حين تحصل على المعلومات الجديدة ارسم صورة، واستخدم خرائط العقل التي تعد أداة بصرية.
وبالمثل فى مدينة ليون الفرنسية تم استخدام نظام ورش العمل لمدة عشرين دقيقة فقط في تعليم مجموعة متنوعة من الدروس، والتي شملت كافة المجالات من العلوم إلى الطبخ وحتى الفنون والحرف، وذلك من خلال تدريس دروس ممتعة من خلال خبير متخصص، والتركيز على الجوانب العملية والنظرية، فهي ورش عمل لمعرفة المزيد عن الموضوعات بإيجاز وبسرعة. وكانت نتائج تلك النوعية من الورش مبهرة للغاية وحقق المشاركون الأصغر سنا نتائج إيجابية متميزة.
وهناك الكثير من الأفكار التي تساعد المعلمة على تصميم برنامجها التعليمي تحت مظلة التعلم السريع بطريقة متوافقة مع ما عرفناه حتى اليوم عن كيفية تعلّم الدماغ وأهمية تنشيط العامل الذاتيّ في التعلّم:
1* هيئ البيئة التي تساعد المتعلّمين على التخلص من الضغط النفسي وتخلق لديهم مشاعر إيجابية.
2* نظم الأنشطة التي تتطلب حل المسائل، ودراسات الحالة، وإجراء مقارنات، واكتشاف الروابط.
3* تجنب الطرح الخطي للمعلومات أو تجزئتها إلى كتل منفصلة.
4* اخلق جسرا بين المعلومات والحياة العامة في سياقٍ واقعيّ.
5* اجعل التعلّم جماعيا ليس فرديا.
6* اترك الفرصة متاحة للحركة، واختلق أنشطة تتطلب ذلك، فالحركة تنشط الدورة الدموية في الدماغ بحيث لا تترك المتعلّمين ساكنين على مقاعدهم، وهي الحالة التي تؤدي إلى إعاقة الدماغ وإبطاء التعلم أو إيقافه كلياً.
7 * اجعل الأطفال نشيطين في الجوانب الأربعة (جسديا/بصريا/ سمعيا/ فكريا) وذلك من خلال:
ـ جعل الأطفال يمثلون ما يتعلّمونه.
ـ تشجعيهم على المساهمة في ترتيب القاعة.
ـ صياغة نماذج لتطبيق مفهوم أو حالة ما من قبل الأطفال.
ـ القيام بنشاط تعليمي مثل المحاكاة أو لعبة تعليمية.
ـ إجراء مقابلات ورحلات ميدانية ومن ثم كتابة تقرير عنها.
ـ مناقشة ما تم تعلمه بشكل جماعيّ.
ـ اطلب من الأطفال أن يقرؤوا بصوت مرتفع كلما كان هناك حاجة للقراءة.
ـ اُسرد قصة تحمل بين طياتها المادة التعليمية.
ـ تصميم مصورات توضيحية ومواد تعليمية ثلاثية الأبعاد .
ـ مراقبة التطبيق على أرض الواقع ونقده والاستفادة منه.
8* يفشل النشاط التعليمي مهما بلغت جاذبيته وذكاء مصممه عندما يُلغى عامل استثارة الجانب الفكري لدى الطفل فيُصبح نشاطاً سطحيا.
9* إن الجانب الفكري هو البوابة التي ينقل بها الإنسان الخبرة إلى معرفة، والمعرفة إلى فهم، والفهم إلى حكمة. ومن الأفكار التي يُوصى بها لاستثارة الجانب الفكري: تطبيق تجربة وتحليل نتائجها – حل المشكلات – تبني أفكار إبداعية – التفكير بتطبيقاتِ وعواقب كل فكرة – التشكيك في كل فكرة قبل تبنيها – التدريب على التخطيط الاستراتيجي.
باختصار:
قم بكل ما هو مناسب لإتاحة الفرصة للمتعلّمين لكي يتعلّموا بكامل حواسهم وعلى مستويات عدة في وقت واحد.