لعل المتتبعين والملاحظين يتتبعون عن كثب كل التطورات والمستجدات، وحتى المواطن العادي يسمع أنه في السنوات الأخيرة عرفت الدول المتقدمة ثورة عارمة في مجال التربية والتكوين، وطرأت تغييرات جذرية في البنيات الأساسية للمنظومة التربوية المؤسساتية، في ظل هذا التحول السريع بادرت وسارعت جمهرة من واضعي البرامج والمناهج ومهندسي التربية وصانعي القرارات الفوقية المركزية إلى اتخاذ حلول ترقيعية وسريعة، دون الأخذ بعين الاعتبار العوامل المتداخلة والمتشابكة التي أفرزها الخط العام والتوجه السياسي (سياسة التعليم)، برمجة المقررات الدراسية (المنهاج الدراسي الأوسع والأشمل)، لقد توهم الأخصائيون دهاقنة الحقل التربوي والمعرفي أن لديهم خاتم سليمان يلجأون به إلى حلول سحرية وذلك بوضع استراتيجيات تربوية وبيداغوجية باعتماد مدخل التعليم بالكفايات التي ما زالت شعارات براقة، في حين ظل الفكر التربوي جامدا ومتصلبا ومأسورا في قوقعة صلدة محارية (معقدة) لا تقبل الاختراق ورؤية نقدية ثاقبة تسبر الأغوار وتعري عن الميكانيزمات العامة المتحكمة في الأجهزة ودواليب التسيير، حيث أن الصعوبات المنهجية التي اعترضت سبيل الباحثين والمهتمين بالهموم التربوية تتمحور حول النظرة العميقة والرؤية الواضحة لمنظومتنا التربوية التي تعاني من رواسب ومخلفات الماضي المثقل بالمشاكل التراكمية والتي كانت عائقا اصطناعيا، وعقبة ابستيمولوجية في وجه الارتقاء والتطور. أمام هذه الأوضاع الصعبة والوضعيات المتعددة والمتباينة التي تتحكم فيها محكمات أساسية وضوابط عامة اقتصادية، اجتماعية ومعيشية أملتها ظروف سياسية محضة، وقع الاختيار على التعليم بالكفايات عوض التعليم بالأهداف، وهنا تطرح إشكالات متعددة وتساؤلات عريضة حول دواعي وأسباب تطبيق بيداغوجيا الكفايات، وذلك بعد تدارك المواقف والسلوكات تجاه المنهاج الدراسي الأشمل الذي يحتوي على العناصر والمكونات الأساسية: مكون نفسي، مكون سوسيو ثقافي، مكون سيكو مهني، سؤال يتبادر إلى الذهن عند طرح الإشكالية العالقة: ما هي أوجه التشابه والتباين بينهما؟ (بيداغوجيا الأهداف، بيداغوجيا الكفايات)؟ لعل الموضوع يحيلنا على النظرية السلوكية والنظرية المعرفية، وبعبارة أدق التعليم بالأهداف والتعليم بالكفايات، وقد جاءت فكرة التجديد والتغيير بعد دراسات معمقة ومستفيضة حول الأوضاع العامة التعليمية، ما حدا بالفعاليات التربوية، اختيار التدريس بالكفايات أو مقاربة المنهاج الدراسي بالكفايات، وذلك بناء على الدعامات الأساسية التي جاء بها الميثاق الوطني للتربية والتكوين المتضمن لفلسفة عامة وطريقة تفكير تعيد النظر في المناهج والبرامج التربوية والتكوينية وآليات الاشتغال والأدوات المعرفية والتي كانت سائدة. لم تأت مبادرة اختيار الكفايات عن طريق الصدفة بل كانت ولادة عسيرة تمخضت عن مجهودات جبارة من ذوي الاختصاص، ويعتبر هذا التوجه العام اختيارا بيداغوجيا يرمي إلى الارتقاء بالمتعلم، إذ أن المقاربة بالكفايات تستند إلى نظام متكامل ومندمج من المعارف والأداءات والإنجازات والخبرات والمهارات المنظمة التي تتيح للمتعلم ضمن وضعية تعليمية/تعلمية القيام أحسن قيام بالإنجازات والأداءات الملائمة التي تطلبها تلك الوضعية، ومن البديهي أن السعي إلى المقاربة الأداتية التي تعتمد على الكفايات الداخلية للمتعلم، وهي غير ملموسة ومحسوسة يمكن التعبير عنها بكيفية باطنية وهذا لا يعني أنها لا تتطور رغم أنها تتسم بالاستقرار والثبات، تزداد تطورا وتبلورا بناء على الممارسة الفعلية والتجربة المعاشة والقدرة الذاتية والعقلية التي يتوفر عليها المتعلم، كإمكانية مؤهلات وملكات فكرية، يعني أن الكفاية توجد عند الشخص كطاقة تم اكتسابها عبر وضعيات معينة، وبإمكانه إبرازها عند الحاجة ولا تعني فقط ممارستها وتطبيقها في وضعية محددة وإلا ستصبح أداء وإنجازا (Perfomance) حسب شومسكي chomsky، ونحن نتناول دراسة مفهوم "الكفاية"، نجد أنفسنا أمام تعدد المفاهيم والمعاني الدلالية والسيميائية للكلمة، لكننا سنحاول البحث عن أدوات معرفية وآليات تفكيكية لتحديد المفاهيم التي أصابها التشويش والخلط، هناك مسألة أخرى لا بد من التوقف عندها، وفحواها المقاربة العسيرة بين "الكفاية" و"القدرة"، حيث يعرف لوبترف (Le boeterf G) بكونها القدرة على التحويل، فالكفاية لا يمكن أن تقتصر على تنفيذ مهمة وحيدة ومتكررة بالنسبة للمعتاد، إنها تفترض القدرة على التعلم والتوافق؛ كما أنها تلاؤم لحل قسم من المشاكل أو لمواجهة فئة من الوضعيات وليس فقط لمواجهة مشكل معين ووضعية بعينها، فالكفاءة هي "القدرة على تكييف التصرف مع الوضعية ومواجهة الصعوبات غير المنتظرة؛ وكذلك قدرة الحفاظ على الموارد الذاتية للاستفادة منها أكثر ما يمكن، دون هدر للمجهود، إنها القدرة والاستعداد التلقائي عكس ما يقابل ذلك من تكرار بالنسبة للآخرين. إن معايير تحليلنا وفحصنا تستند إلى تولج المصطلحات التربوية "الكفاية" و"القدرة"، "الاستعداد"، "التصرف"، "المهارة"... تولجا مفاهيميا وإيتيمولوجيا وتلمسيا يعتمد الإجرائية (opérationisme) في الاشتغال، لقد ساهمت شروحات الأستاذين (د. محمد الدريج) صاحب "الكفايات في التعليم" من أجل تأسيس علمي للمنهاج المندمج، ثم (ذ. عبد الكريم غريب) "الكفايات" استراتيجيات وأساليب تقييم الجودة، حيث وقفنا عند نوعين أساسيين في الخطاب التربوي المعاصر والأدبيات المرتبطة بالكفايات:
1) الكفايات النوعية والكفايات (الخاصة) والكفايات العامة (المستعرضة، الممتدة)• وتنقسم إلى قسمين كما أشرنا بصفة عامة، الكفايات النوعية ترتبط فقط بمادة دراسية معينة أو مجال تربوي أو مهني معين، ولهذا فهي أقل شمولية وفسحة من الكفايات المستعرضة، وقد تكون وسيلة توسلية نحو تحقيق الكفايات الممتدة (المستعرضة، العامة).
2) الكفايات المستعرضة (الممتدة) ويقصد بها العامة لا ترتبط بمجال ضيق محدد أو مادة دراسية معينة، وإنما يتسع توظيفها في مجالات واسعة متعددة المناحي والنواحي أو مواد دراسية مختلفة، ولهذه الأغراض والدواعي، فإن هذا النوع من الكفايات يتسم بغزارة المضامين وبغنى مكوناته الأساسية المتصلة فيما بينها غير مفككة ومنفصلة، إذ تسهم إحداثه تداخلات وتشابكات متعددة ومتشعبة من المواد التي سيصار إلى إعادة لحمتها بعلائقية، وتبيان الروابط التي تنتج التأويل والتوليد، كما يتطلب هذا النوع من الكفايات المجاهدة والمدارسة وتحصيله زمنا أطول. إن المستجدات والمتغيرات التي صدرت في ميثاق التربية والتكوين وعلى ضوء الاقتراحات والتوصيات المشتقة من اللقاءات والمناظرات التربوية لاحت في الأفق آراء وأفكار متضاربة من مؤيد ومعارض ومعتدل، حيث صب الاهتمام البالغ على المقاربة بالكفايات مقابل التدريس بالأهداف الذي لا يساهم إلا في تنميط السلوك وترويض المتعلم، وقد أسندت إلى المقاربة بالكفايات رؤية جديدة وواقعية تضاف وتنطلق من نشاطات متعددة، تعتمد على أسس نظرية وقواعد علمية وأساليب جافة وخشنة، لتشكيل فكر علمي محض خصوصا في المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية، وتعتمد بالأساس على الكفايات الداخلية التي تتحوّل إلى سلوك ظاهري، تتمحور حول عناصر ومكونات أساسية البطانة الداخلية (المعارف السابقة المكتسبة)، المهارات التي تساعد على القيام بأداء معين أو مهمة محددة بشكل دقيق يتسم بالتناسق والتناغم والنجاعة والمصداقية والفعالية والثبات النسبي.
التدريس بالكفايات، اختيار استراتيجي، يجعل من الإنسان عنصرا فاعلا وفعالا، تساهم في تكوين القدرات والمهارات، ولا يبقى منحصرا في مجال ضيق وإطار محدود مقيد بأغلال تكبل طاقات الإنسان وتحد من خياله الخصب وفكره الخلاق، ولهذا فإن مدرسة بدون حدود التي توظف الطرق الليبيرالية (méthodes libertaires)، وتفسح المجال المدرسي الواسع وتجعله يشجع على التعلم الذاتي، وتخلق تواصلا وتلاؤما مع الناشئة، وذلك بتبسيط الخطاب التربوي وإيصال المعارف والمعلومات بطريقة بيداغوجية فنية، تيسر النجاح في توظيف التعلمات لحل المشكلات والمعضلات المطروحة، وذلك بفضل ما تحققه من كفايات عبر مختلف المواد والوحدات التعليمية، وتمنح الزخم والحدة للتعلمات المكتسبة، في فضاء المدرسة، ودلالات عميقة وحقيقية، مرتبطة ارتباطا عفويا بمفهوم التصرف الواسع والشامل، الذي يرتبط بكل جوانب الشخصية السيكوسوسيولوجي، الحسي حركي، والبسيكوعاطفي والوجداني، ولا تهتم كثيرا بمفهوم السلوك، الضيق، الذي تقتصر فقط على المؤشرات العضوية والمثيرات الخارجية ثم الاستجابة الشرطية، رغم أن الكفايات تعتمد على القدرات الذاتية والعقلية، وأن المتعلم عالم قائم بذاته، له مقدراته ومقوماته الذاتية والجدانية، فإنه كائن اجتماعي ينفعل ويتفاعل مع الآخر والوقائع والظروف المحيطة به، لذلك على الإنسان أن يغني تجاربه المعاشة ويطور علاقاته الاجتماعية التي تساهم في إغناء التفاعل الاجتماعي بل التفاعلات الغنية التي تسمح بالامتلاك الدائم للمعارف والمهارات، فالمتعلم يصير فاعلا في تعلمه مع الآخرين داخل مجموعة معينة، يمد جسور التواصل والتحاور، تتجاذبه قوة مغناطيسية تجاه الآخر. فالانفعالات الإيجابية (كالثقة في النفس، واللذة والألم، والأمان والاطمئنان النفسي و•••) تولد القابلية والدافعية التي دونها لا يمكن حدوث أي تعلم، كما أنها تسهل معالجة وتبويب وتخزين المعلومات بواسطة طرفي الدماغ فنمط العلاقات المنسوجة بين التلاميذ والمدرسين هي إذن ذات أهمية بمكان، ولهذا فإن البيداغوجيا الفارقية تفسح المجال خصبا وحرا لانبثاق ووجود هذه الانفعالات. وحسب أعمال الاتجاه السوسيو بنائي، ومفهوم التصور التربوي لهنري بيارون H. Pieron، فإن تفاعلا اجتماعيا ديناميكيا وغنيا يسمح بنمو معرفي جيد، لأنه يساعد، في الوقت ذاته، على الفعل والتبادل، والأخذ والعطاء، مع العمل على إبراز المعني وأهمية محددة ومضبوطة، كما قال هنري بيارون: "إن التفكير يتولد عن الفعل ويعود إلى الفعل"•
كخلاصة وبالرغم من اختلاف مفهوم الكفاية ايتيمولوجيا وسيميائيا، تبقى التعريفات متقاربة على العموم، فحمولتها الإبستيمولوجية والسيولة النسقية وشحنتها السيمونتيقية تعطيها مفهوما واسعا وشاملا أكثر من المفردات المجاورة لها، كالقدرة لاستعداد، التصرف، الإنجاز، المهمة، الأداء، المهارة... وما إلى ذلك، فهي تستمد من النظرية المعرفية، ونظرية شومسكي التحويلية والتوليدة، التي ترتكز على الأسس النظرية والمعرفية، باعتبار أن الذات المتكلمة واعية وراشدة تمتلك قدرات عقلية وذاتية ومؤهلات وملكات التفكير، وبالتالي فالعنصر البشري قادر على إنتاج المعرفة وتحويلها وفق وضعيات صعبة ومعقدة كاستعمال اللغة الرمزية، وعلامات سيميائية وتعيينية تنطلق على الواقع الخارجي، والملموسات والمحسوسات بعد عملية ذهنية معقدة ومركبة، وتمثلات ذهنية وخطاطات توقعية، تتوافق وتتطابق مع المعطيات والحقائق الثابتة، فهي تتسم بالاستقرار والثبات والهدفية والمرجية، ولا شك أن القفزة النوعية والتطور الهائل الذي عرفه علم النفس المعاصر جعل البيداغوجيا، من جهة والفلسفة التربوية من جهة ثانية، تبحثان في كيفيات تفعيل التعليم والتعلم، كما أن بيداغوجية الكفايات لها علاقة وثيقة بمفهوم علم النفس الحديث الذي يعتبر بأن موضوع النفس هو دراسة التصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق