قم بزيارة هذه الصفحات

مذكرات معلمة في قرية



قضت سناء بنعتو قرابة الخمس سنوات في قرية جبلية منسية تبعد ب 50 كيلومتر عن مدينة شفشاون كمعلمة في مدرسة ابتدائية. كانت تدرس كل المستويات وكل المواد طوال مدة خدمتها. في هذا المقال تحكي لنا هذه المعلمة العبر التي استخلصتها من هاته التجربة
” الحياة تأخذك إلى حيث لا تنتظر و الأقدار تسير بك إلى عوالم جديدة غريبة عنك، لم تكن تتوقع أن تصير يوما جزءً منها.
الحياة تجارب تختبرك و تختبر جلدك، تسافر بك عبر الزمان و المكان و تصنع منك شخصا جديدا كلما نهلت منها أكثر و اصطدمت بها عن كثب.
ما سأكتبه هنا ليس قصة أو حكاية، إنها حياة كاملة، لم تكن لتدب فيها الروح لولا أولئك الذين وضعهم الله في الطريق، لتعلمهم شيئا و تتعلم منهم أشياء، لولا أولئك الذين يجعلون لهذه الحياة معنى لأنهم يؤمنون بها رغم أنها تواصل إدارة ظهرها لهم.
قبل أن أصبح معلمة كنت ككثيرين أعتبرها مهنة عفا عنها الدهر و تجاوزتها الطموحات و أصبحت من التراث الذي يجب أن يُستزار، لطالما رأيتها مهنة تقتل القدرة على الإبداع و تسجنك في بحر الروتين و التكرار. و رغم أن تجربتي غير كبيرة، لكنها تجربة مكثفة، مليئة بالحياة وبأشياء جديدة لم أكن أعرفها قبلا.
تتملكك الهواجس قبل الالتحاق و قد تتحول إلى رهبة و خوف بعد رؤية المكان من المغرب المنسي الذي قُدر لك أن تصيري جزءً منه، تجدين نفسك بين خيارين : إما انغماس في الذات و تصارع مع الظروف  و قلة الموارد و وعورة الطرق و المسالك و استهلاك لنفسك في اللوم و التحسر على الحال و السخط على الأوضاع، أو تجاوز لنفسك إلى الآخرين، وعي بأنك تحملين رسالة حتى إن كانت أكبر منك فهي وقودك للاستمرار و محفزك للعطاء و الترفع عن الذاتية و الانغماس في مجتمع جديد، مختلف أيما اختلاف عنك لكنه مُغرق في الإنسانية و الفطرية و مشوب بشيء لم تمسه الحضارة و لم تُحله قاسيا جافا كأنه بقي على صليقته الأولى.
بالمقابل يمنحك التعليم فرصة لاكتشاف ذاتك و معرفة ما تكونينه حقا، يجعلك تستغرقين في المعاني المشفرة الكامنة وراء ضحكة طفل أو نظرة فتاة مليئة بالشغف لا ترغب في شيء إلا أن تتعلم أو تجاعيد وجه امرأة أهلكتها كثرة الواجبات، لكنها رغم كل شيء تبتسم من القلب كأنها تخبر الحياة أنها لم تنهزم…تستغرقين في تلك الأرواح العاملة بجهد لترى واقع أبنائها أجمل مما كان عليه دوما واقعهم و تستغرقين أيضا في أولئك الذين يتمنون لو أنهم نالوا حظا من التعليم لكي لا يٌفعل فيهم ما يُفعل.
يفاجؤك الأطفال هناك بأسئلة كثيرة إذا ما سمحت لهم، تدهشك تلك البساطة و ذلك الأدب الجم خاصة و أنت تسترجعين يدك بإلحاح مقابل إصرارهم على تقبيلها كما جرت عليه عاداتهم، تستغربين و أنت تكتشفين تلك الفطرة التي لم تخدش بعد خاصة و هم يصرون على عدم الكذب و المراوغة، فإذا ما سألتهم عن واجباتهم المنزلية لن يتوانوا أبدا عن الاعتراف بأنهم لم يقرؤوا النص و لم يراجعوا الخلاصات، سيفاجؤونك بكثير من الحب و هم يتسابقون نحو الطريق الرئيسية لاستقبالك عند مدخل القرية و كذلك  و هم يصرون على مرافقتك يوم مغادرتك لأنهم يحسون بالمسؤولية اتجاهك و اتجاه سلامتك.


ستشعرين أنك تعيشين في زمان و مكان لا يشبهان في شيء ما تعودته خاصة عندما تباغثك مراهقة بسؤال يعتبر بديهيا هناك: “هل ما يحدث في المسلسلات من قصص غرامية قابل للتطبيق في حياتهم الواقعية؟” و أسئلة كثيرة كثيرة غيرها تنم عن تلك البراءة و البساطة التي لم تتكدر بعد.
يمنحك التعليم أيضا مساحة لعيش طفولتك من جديد، بتفاصيلها الصغيرة، بأحلامها الكبيرة، ببراءتها، بشقاوتها، باندفاعها، بأمالها العظيمة و جنونها الذي يتسع له الكون على رحابته. يمنحك إياها إذا ما قررت أن تتوحدي مع أرواح أولئك الصغار الشغوفين بما يُقدم لهم، المتعطشين للعلم، للحب، لحضن دافئ لا ينتظر مقابلا، لابتسامة مجانية لا تنتظر مكافأة، ستشعرين حتما أن قلبك يتسع أكثر للآخرين     و أن الحب يحتله طاردا كل تلك المشاعر التي اختلطت ببعض الحلكة.
و في غمرة انتشائك بما تكتشفينه قد يهاجمك المرض على حين غرة فتعين النعم التي كنت محاطة بها، قد يباغثك خبر موت قريب أو مرضه فتسارعين الزمن كي تصلي قبل أن تنقبض الروح، لكنك تصطدمين بقلة المواصلات أو انعدامها و بعدم قدرتك على اللحاق في الوقت المناسب…ستهاجمك الحسرة و اليأس حينها و ستخبرين نفسك كم أنت قليلة الحيلة، لكنك تعين في لحظة فارقة قد لا تتكرر، قد لا يستوعبها غيرك أن وجودك في تلك البقعة بالضبط ليس عبثا و أن دورك هناك قد يفوق قدرتك على الفهم و العطاء.
لكن في ساعة تجلٍ  تتيقنين من معنى وجودك في مكان و زمان محددين بقوة أكبر منك، تعين أنك تستطيعين أن تكوني سببا في التغيير و اتساع الرؤية في عقول أولئك الذين استُؤمنت عليهم، تعرفين أنك هناك لست موظفة تتقاضى أجرا لأنه قد لا يفي بما تحتاجينه بل أنت هناك لأن لك مهمة عليك أن تقومي لها.
تعرفين أن مهمتك الأولى تكمن في التربية و في زرع فسائل الأمل وفي جعل الآخرين يؤمنون بقوة الأحلام و بقدرتهم على تجاوز الحدود التي يرسمونها في عقولهم، تدركين أن أولئك الأطفال هم تربة خصبة متعطشة لماء العلم يرويها و لهواء الوعي ينميها.


تتجاوزين النقص البشري الكامن في داخلك و ظاهرك و تقتنعين أنك قدوة هناك، ينظر إليك الآخرون و ينهلون منك حتى إن لم تكوني راغبة، تفهمين عاجلا أو آجلا أن وحدها التربية و الصبر على ما تتطلبه من اتساع أفق و رباطة أعصاب و عمق محبة و رحابة روح قادرة على جعلك معلمة مختلفة    و ستدركين أن عليك أن تكوني أبا يحنو و أما تقسو إذا ما لزم الأمر.
سيخبرك الأطفال هناك بقصصهم عن الخوف و الرعب من المجهول الذي ينتظرهم، سيحكون لك عن الليالي التي يبيتون فيها دون أبائهم و يُطلب منهم أن يكونوا هم أرباب الأسرة نيابة عنهم، ستكتشفين لوحدك كم المسؤوليات الملقاة على أكتافهم ذكرانا و إناثا، فهم المربون على صغرهم و الفلاحون        و التجار و أرباب العمل و المعيلون إن لزم الأمر، تعرفين ساعتها كم هم بحاجة لذلك الحس الأبوي الرقيق الذي يستطيع وحده أن يبدل ذلك اليأس و ذلك الخوف إلى شعور مؤقت بالأمان لكنه يفي بالغرض.
ستدركين أن العطاء معدٍ و أنك كلما بذلت أكثر ستكون النتيجة على قدر البذل و المشقة، ستتجاوزين أنانيتك و تعرفين أن الكون لا يتمحور حول شخص واحد هو أنت، بل ستجدين أنك لا تعدين حلقة في سلسلة مترابطة لك أن تختاري تأدية دورك كما يجب و جعل السلسلة أكثر ترابطا أوأن تكوني سببا في خلل تتوارثه الأجيال، سيتجلى ذلك لك بوضوح و أنت ترقبين تطور أولئك البراعم الذين قضيت معهم عمرا و منهم من كنت سببا في تعلمه الكتابة و آخرون تعلموا القراءة و بعضهم تعلم أن يتقاسم الأشياء مع الأخرين و كثيرون أصبحوا يؤمنون بأهمية العلم في عالمهم.، و في خضم استمتاعك بروعة الانجاز تكتشفين أنك كنت هناك لتتعلمي منهم بدورك، جاعلين منك إنسانا آخر لا يشبه ذلك الذي أتى ساخطا بل يغادرهم و هو يتساءل هل سأعي دوري في الحياة بدونكم؟ ستجيبين أن ذلك سيكون ممكنا إذا ما قررت أن تتعالي عن مادية الأشياء و أن تبحري في جوهرها.


ساعتها فقط تتبدى لك المعاني جلية كأنها لآلئ عقد مترابطة يشد بعضها عضد بعض، كأنما خُلقوا ليعبُروا بك إلى بر المعالي.”