قم بزيارة هذه الصفحات

أولويات الوزير الجديد

بقلم : أبو بكر خالد سعد الله


لا شك أن وزير التربية الوطنية الجديد سيجد إرثا ثقيلا من سلفه … لا بداية له ولا نهاية. وقد عوّدنا المسؤولون جميعا على معالجة قضايا التربية بسطحية وتسرع لأن الأهم بالنسبة إليهم ليس تحسين وضع القطاع، وإنما الظهور بمظهر الريادة والإصلاح والبهرجة بتضخيم الأرقام وعدم التواني في تزييف الحقائق التي يعكسها الميدان. هذا الأداء في التعامل مع موضوع التربية والتعليم هو الذي جعل المدرسة الجزائرية بعد 50 سنة من الاستقلال تسبح في ظلمات يعجز اللسان عن وصفها. نوّد الإشارة في هذه العجالة إلى ما نراه اليوم ذا أولية قصوى.


1- الكتب المدرسية
عندما نتذكر كيف أعدت المناهج في مطلع هذه الألفية، وكيف سطرت محتويات مختلف الكتب المدرسية، وكيف وزعت مهام تأليف الكتب الرسمية… وعندما نتذكر المدة (بضعة أشهر) التي كانت تمنح لمؤلفي تلك الكتب -وكثير منهم ( لعل معظمهم) لم يسبق له أن ألّف حرفا واحدا بقلمه- ندرك حجم الكارثة التي حلت بالكتب المدرسية. ولا نستغرب حينئذ ما اكتشف فيما بعد من أخطاء في محتويات تلك المراجع. وكان المؤلفون يسابقون الزمن، فوجدوا ضالتهم في للجوء إلى الترجمة المباشرة من الكتب الفرنسية، وذلك نظرا لنقص أو فقدان التجربة في مجال التأليف. وكانت الترجمة في حد ذاتها لا تؤدي المعنى في الكثير من المواضع، وحتى إن أدت المعنى فهي بأسلوب غير سلس أقرب إلى الترجمة الحرفية.



هذا الوضع يستدعي إعادة النظر في كل ما كتب خلال تنفيذ إصلاح المنظومة التربوية، بل يستدعي ذلك العمل على التخلص من تلك الكتب بالكامل واعتماد طريقة جادة ومتأنية في تأليف الكتاب المدرسي.

2- رفع مستوى التحصيل العلمي

هناك في العلوم (الدقيقة بوجه خاص) مشكل استفحل لدى التلاميذ وهو عدم تدربهم على المسائل والتمارين التي تستدعي بعض التفكير الحر وطول النفس، وتتطلب الصبر والمثابرة على مواجهة الصعوبات من أجل الإتيان عليها. ذلك أن المناهج والمقاربات المتبناة أدت بواضعي الامتحانات ومختلف أدوات التقييم في جميع الأطوار (وبوجه خاص سنوات نهاية الأطوار) إلى الجنوح للسهولة والسطحية في مضمون السؤال فعوّدوا التلاميذ على تقديم إجابات تعتمد على استظهار معلومات لا تتطلب التحليل والتأمل.

ولذلك فليس غريبا أن يغطي التلميذ هذا الجانب (جانب عجزه عن المثابرة وبذل الجهد) بإقباله على الدروس الخصوصية إقبالا منقطع النظير. إنه لا يمكن أن نجعل من هؤلاء التلاميذ طلبة ناجحين مهنيًا في الميدان، ولا علميًا في التعليم العالي. وبالتالي فنحن بذلك نكوّن جيلا كاملا من المتعلمين محكوما عليه بالفشل الذريع. إن إعادة النظر في أساليب تلقين التلميذ وتقييمه أمر بالغ الأهمية حتى يضطر المتعلم إلى تغيير أسلوبه في التحصيل العلمي.
3- تعلم اللغات
ليس سرا أن السواد الأعظم من تلاميذنا وطلبتنا صاروا لا يجيدون اللغات بل لا يلمّون بأية لغة. وقد شملت هذه الظاهرة الآن الكثير من الأساتذة في مختلف أطوار التعليم، بما فيها الجامعي، سيما الشباب منهم. وكان من المفروض أن يكون الطالب قادرا على التعبير عن أفكاره باللغة العربية في نهاية المرحلة الثانوية نظرا لما تلقاه بهذه اللغة منذ السنة الأولى. كما أنه كان منتظرا أن يكون ملمّا باللغة الفرنسية إلماما كبيرا يعادل نحو 2000 ساعة من دراسة هذه اللغة حتى البكالوريا … وإلماما مقبولا باللغة الأنكليزية يعادل زهاء 1000 ساعة من دراسة هذه اللغة حتى نهاية المرحلة الثانوية.
لكن الملاحظ في مستوى هؤلاء التلاميذ، حتى أولئك الذين تحصلوا على علامات ممتازة في اللغات في امتحان البكالوريا، أنهم عاجزون حتى عن قراءة بعض الجمل قراءة سليمة، ناهيك عن إدراك معانيها. ليس المقام هنا الحديث عن الصراع اللغوي الذي كان ولا يزال يطرح بحدة عند فئات معينة في سلك التعليم، وفي الإدارات، وفي دواليب السلطة، وهو ما زاد الطين بلة، وعفّن المسعى النبيل، وأساء كثيرا لعملية تعلم اللغات… ليس في المدرسة فحسب بل في كل ما له صلة بها (مختلف الإدارات، الشارع، الإعلام،…). ولذا نكتفي بالقول إنه من واجبات وزارة التربية الانشغال بتعلم اللغات، سيما بتفعيل أدواته وبحسن الأداء في تلقينها، والمطالبة بأن يكون التحصيل في آخر المطاف يقارب ما ينبغي أن يكون بعد آلاف الساعات المخصصة لهذه المادة.

4- نسب النجاح
لا نعتقد أن هناك ضرورة للتأكيد بأن كمّ المعلومات « الأكاديمية » ونوعيتها االمتوفرة عموما لدي الحاصل مثلا على البكالوريا اليوم أدنى بكثير من الكمّ الذي كان لدى أسلافهم قبل 20 أو 30 سنة. والمفارقة أن قبل 20 أو 30 سنة كانت نسب النجاح تتراوح بين 20% و 30%، واليوم صارت تفوق 60%. هذا التناقض يبيّن أن هذه النسب هي مبنية على خيار سياسي واجتماعي وليس على أداء تربوي أو علمي.


كما أن لا علاقة له بنجاح إصلاح أية منظومة تربوية… ومن يدعي عكس ذلك فهو من المنافقين المضللين. غير أن هذا الخيار انعكس بالسلب على المستوى بالجامعة فعمّت فيها الرداءة بكل أوصافها، وهيمن فيها الكمّ على الكيف، وفقدت الشهادات معناها وحتى حلاوة الفوز بها… كل ذلك بسبب تضخيم نسب النجاح في البكالوريا بوجه خاص. ومن الانعكاسات السلبية الأخرى أن هذا التضخيم لا يشجع التلميذ على طلب العلم والثبات فيه، وتحسين أدائه مادامت « النتيجة مضمونة ».

5- تكوين النخبة
لم تهتم وزارة التربية بتكوين النخبة لعدم اكتراث السلطات العليا بتسطير أي مشروع وطني في هذا الاتجاه… فهذه السلطات لها من المشاكل الهامشية ومن المصالح الذاتية ما يشغلها عن هذا الأمر الجاد الذي يصب مباشرة في مصلحة البلاد. ونقصد بالنخبة هنا تلك الفئة من الناشئة المؤهلة فكريا لتلقي المزيد من المعارف والتألق علميا. إنها فئة ينبغي العناية بها عناية مركزة أملاً في أن تقود هي المسيرة مستقبلا في مختلف دواليب الإدارة والمنشآت الصناعية والاقتصادية والعلمية … وحتى السياسية، ولِمَ لا؟ إن فسح لها المجال.
هذه النخبة تتطلب فتح أقسام خاصة في مختلف الأطوار ومتابعتها من قبل فريق وطني يسهر على تيسير تقدمها من الطور الأول إلى نهاية الدراسات العليا. والنخبة لا تتألق فقط في مجال الرياضيات بل نجد نخبا في كل المعارف ولا ينبغي أن نعتني ببعضها دون الأخرى. نحن نعلم أن وزارة التربية نأت بنفسها منذ عديد السنوات عن كل المنافسات العلمية الإقليمية والعالمية في الرياضيات وغيرها… حتى لا تكشف عيوب إصلاحاتها. وقد « أخطأت » منذ ثلاث سنوات وزارتنا (عندما صدّقت تضليلات مسؤوليها وظنت أن مستواها يضاهي مستوى الغير) فأرسلت بتلاميذها ليتسابقوا في المنافسات العالمية في الرياضيات فكشفت عورتها عندما احتلت المرتبة الأخيرة في التصنيف النهائي. لقد « أنجزت » وزارة التربية تقهقرا كبيرا في هذا المجال. ولا بد أن تسعى الآن بكل ما لديها من إمكانيات لعلها تستدرك الأمر إذا ما كانت جادة في مسعاها. وتجارب البلدان الأخرى في هذا الحقل كفيلة بأن تنير لها الطريق، وتسهل مهمتنا إن كانت هناك نية صادقة في تحقيق تقدم في تكوين النخبة.
6- التكوين المستمر
من المعلوم أن رفع مستوى التلميذ يتطلب تكوينا مستمرا لسلك التعليم وحتى الإدارة. وقد بادرت منذ سنوات وزارة التربية بالتعاون مع جامعة التكوين المتواصل والمدارس العليا للأساتذة بعملية طموحة وواسعة النطاق ليكون كل أساتذة مرحلة التعليم المتوسط بمستوى بكالوريا +4، ومعلمو المرحلة الابتدائية بمستوى بكالوريا +3. وحسب علمنا فقد انطلقت العملية بحماس فياض وبأموال ضخمة، لكن نتائجها الأولى بينت بأنها عملية طويلة المدى ولا يمكن تحقيق ذلك في بضع سنوات، وبدون تفرغ من قبل الأساتذة المقبلين على التعلم وتحسين المستوى.
ولما كان كبار المسؤولين لا يبحثون في واقع الأمر عن جدية العملية -إذ أن شغلهم الشاغل هو ذرّ الرماد في العيون وإقناع من يريد الاستماع إليهم بأن إصلاح المنظومة التربوية يحقق النجاحات تلو النجاحات- فقد ميّعوا العملية ومنحوا الشهادات المعلن عنها، وهي لا تحمل بين طياتها سوى « الهواء والريح ».
واليوم نرى آلاف المدرّسين الجدد الذين وظفتهم وزارة التربية خلال هذه الصائفة، وهم من حملة الشهادات الجامعية لكن هذا لا يغنيهم عن التكوين المستمر، سيما في الحقل التربوي والبيداغوجي. ولعله من المفيد الإشارة في هذا المقام إلى « الكوكبتين » اللتين وصلتا اليوم إلى السنة الأولى ثانوي، مما سيؤدي إلى اكتظاظ عارم. ما سبب هذا الازدحام؟ إنه نتيجة حتمية للتسرع في عملية الإصلاح وعدم رؤية العواقب.
لا شك أن عميد الوزراء لم يكن يتصور خلال الإقدام على خطوات إصلاحه أنه سيظل على رأس التربية حتى « عام الكوكبتين »… وعلى كل حال فقد فرّ الآن بجلده ونجا من المحنة، تاركا لخلفه إرثا ثقيلا… عليه أن يسيّره حتى عام 2015. سوف نرى حينئذ ما سيحل بالجامعة من انهيار تحت وطأة العدد. إن إصلاح التعليم والسير به نحو الأفضل يستدعي وضع خطة طويلة المدى، يتابعها من لهم نفس طويل لتحسين الأداء التربوي والعلمي من قبل سلك التعليم برمته.
7- روح المسؤولية
لا أعتقد أن هناك من هم أوعى من سلك التعليم في قائمة الموظفين (كافة القطاعات). ورغم ذلك دأبت السلطات على استعمال العصا في وجه المحتجين من هذه الفئة كلما طالبوا ببعض الحقوق. كما أن اللجوء إلى العدالة -وأية عدالة- صار السيف الذي تهضم به حقوق المدرّسين في كل الأطوار. وإذا كانت هذه الأساليب المقيتة تفرض نفسها في بعض المواقع، وفي بعض الظروف، وفي بعض الحالات فإنها مذمومة ومدانة في سلك التعليم لأنها تدل على انحطاط لا نظير له من قبل المسؤول الذي يتعامل مع الأستاذ كتعامله مع المجرمين والمدمنين على السجون.
كما أن الخنوع لكل مطلب في مجال طرائق التقييم أو في مجال محتويات المناهج من قبل التلاميذ (وربما أوليائهم أيضا) يهدف إلى تقليص عدد الدروس التي تدخل في التقييم (لضمان النجاح في البكلوريا وغيرها) أمر تدينه كل الأعراف. فليس التلميذ -أو ولي أمره- هو من يحدد محتوى الدروس المدرجة في الامتحانات. نعتقد أن توعية الجميع بخطورة هذا المسعى الذي استفحل من واجب كل مواطن غيور على التربية والتعليم في البلاد.
ومن جهة أخرى، من المؤسف حقا أن نرى كل هذه الزيادات في الرواتب، ومنها رواتب سلك التعليم في كل أطواره (وهو أمر مستحق) دون أن نرى مردودا له في الميدان. كان على السلطات التي أقدمت على هذه الخطوة القيام بعمل توعوي، وتحسيس واسع النطاق من قبل كبار المسؤولين (بدءا من رأس الهرم) في كل وسائل الإعلام، وفي الميدان كي يدرك الموظف أن هذه الأموال الطائلة لا بد أن يقابلها جهد جاد في أداء المهام يحسّن من وضع البلاد.
والأدهى من ذلك أن بعضهم -من سلك التعليم وغيره- بدل أن ينحو هذا المنحى راح يستغل الفرصة بدخول عالم « البزنسة » مهملا بذلك مهمته الأساسية… فكانت هذه الزيادات، في بعض الأماكن، وبالاً على التعليم عوض أن تعود بالفائدة على الجميع.
لا ندّعي هنا بأننا أحطنا بقضايا التعليم ومشاكله التي لا تحصى، وإنما أملنا كان التركيز على ما نعتقده من القضايا الأساسية التي ينبغي على كل مسؤول في التربية -مهما طالت أو قصرت « عهدته »- أن يوليها حقها ويعكف على إيجاد لها أنجع الحلول. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق