قم بزيارة هذه الصفحات

اللغة عند الطفل



افترض أنك أريت طفلاً عصوين من طولين مختلفين، وأن العصا الأولى كانت أكبر من الثانية، وأنك سألته أي العصوين أطول من الأخرى. ثم افرض أنك أريت الطفل عصايين الأولى من الزوج السابق والأخرى جديدة، وسألته أيهما أطول. أخيراً هب أنك سألت الطفل دون أن تسمح له بمقارنة العصي مباشرة، أي العصيين أطول من الأخرى، الأولى أم الثالثة. تكون العصا الأولى أكبر من الثانية والثانية أكبر من الثالثة، فإن خلص الطفل إلى التأكيد بأن الأولى أكبر من الثالثة يقال إنه أجرى استدلالاً تحويلياً. ادعى بياجي أن صغار الأطفال دون الخامسة أو السادسة لا يقيمون استدلالات تحويلية. ودعم باحثون آخرون، ومن مشارب معارضة لمشرب بياجي، رأي الأخير. إلا أنه وفي السنوات العشر الماضية أكد باحثون آخرون أن أبناء الثالثة أو الرابعة يستطيعون أيضاً إجراء الاستدلالات التحويلية وأنهم أكثر كفاءة في الإدراكية المنطقية مما تصوره بياجي.

يأتي الدليل بصدد الأحكام التحويلية لأطفال ما قبل المدرسة من دراسات درب فيها الأطفال على مقارنة الأزواج المختلفة من العصي قبل استدلالهم. علّم الأطفال في إحدى الدراسات أن أ أكبر من ب، وب أكبر من ج، وج أكبر من د، ود أكبر من هـ، وذلك باستخدام عدد من العصي بألوان مختلفة. وكانت أطوال العصي كالآتي

آ =7سم، ب=6سم، جـ=5سم، د=4سم، هـ=3سم. وكانت الألوان بالتتالي أزرق، أحمر، أصفر، أبيض. استخدمت في الدراسة قطعة من الخشب مثقوبة بأعماق متباينة، حيث لا ترتفع أي من العصيين المثبتتين باللوحة عن 1.5 سم. وسئل الأولاد عن أي العصوين أطول من الأخرى وذلك عندما تكونان مثبتتين إلى اللوحة ثم عرض عليهم الطول الفعلي للعصيين بإزاحتهما من اللوحة. هكذا تعلم الصغار التعرف على مختلف الأطوال بوساطة اللون، كما تعلموا تلك المقارنات بسهولة. وطلب إلى الأولاد في الروز مقارنة العصا "ب" بالعصا "د" عندما كانتا في اللوحة. فأصاب أكثر من 75% من أبناء الرابعة الإجابة. أكد باحثون آخرون تلك النتائج. أيمكن لصغار الأطفال أن يسلموا أنفسهم للتدرب على إقامة الاستدلالات التحويلية؟ إنه لمن الممكن أن يكون الأطفال خلال التدريب قد أفرطوا في تعلم أحجام العصي التي ربط كل منها بلون معين، أو يمكن أن يكونوا قد أقاموا صوراً عقلية للعصي أثناء التدريب ومن ثمّ راجعوا الصور العقلية في رؤوسهم عندما سئلوا مقارنة "ب" و "د". إن كان الأمر كذلك، فمن الأرجح ألا يكون الصغار قد صنفوا الإجابة الصحيحة بوساطة التفكير التحويلي بل بوساطة التخيل العقلي. وهكذا، يبقى من غير الواضح ما إذا كان بإمكان أطفال ما قبل المدرسة التدرب على إقامة الاستدلالات التحويلية، إلا أنه لا يمكن لأغلب صغار الأطفال استخدام مثل تلك الاستدلالات بصورة تلقائية.



ثبات العدد

هدف بياجي في واحدة من تجاربه إلى دراسة مفهوم الطفل عن العدد وثباته. عرض على الطفل صف من ستة أقراص بلاستيكية وسئل أن يأخذ العدد نفسه من كومة من الأقراص بجانبه، وأن يقيم صفا مماثلاً. تميزت الاستجابة بتصاعد نمائي عادي مرتبط بالسن. لقد قلد أبناء الرابعة التموضع المكاني للعناصر المصفوفة وتجاهلوا الطول، فطال صفهم وتضمن عدداً كبيراً من الأقراص، أو قلدوا الطول وتجاهلوا التموضع المكاني أحياناً، أي أنهم فضلوا عدداً كبيراً من الأقراص. أما أبناء الخامسة والسادسة فقد قلدوا المثال آخذين بعين الاعتبار طول الخط والتموضع المكاني.

يعتقد بياجي أن الطفل يملك إحساساً حقيقياً بالعدد، فقط أن هو تغلب على الوهم الإدراكي للعدد وذلك بمعونة التفكير المنطقي. ويرى الباحث أن التفكير المنطقي ينمو لدى الطفل بفضل استيعاب الأفعال العقلية، هذه الأفعال التي تتشكل في إطار منظومة متكاملة كما هو الحال في العمليات الحسابية التي تتميز بعكسيتها. فالمجموع 6 + 6 = 12 يعكس بالتالي إلى 12 – 6 = 6 والضرب والقسمة شأن الجمع والطرح، يخضعان للعكس أيضاً. تسمح "عكسية" العمليات العقلية للطفل بالرجوع إلى نقطة البدء في تجربة الثبات فيعرف بأن تحولات بعثرة الأقراص تقبل العكس، حيث يبقى عدد الأقراص كما هو.

تحدث بعض الدراسات تفسيرات بياجي لنمو العدد. استخدم الباحث، هنا، إجراء يختلف عن نظيره لدى بياجي، فلم يمثل أي تحول للأولاد، وانقص عدد العناصر المستخدمة، كما جعله مختلفاً أحياناً. غير أن إعادة التجربة بإضافة الفئات الضابطة الملائمة، لم يوصل إلى نتائج مشابهة. ثم إن فئة ثالثة من الباحثين أكدت أن الأطفال الصغار لا يفهمون العبارات "نفس" "أكثر" بالطريقة ذاتها التي يفهمها أبناء الرابعة أو الخامسة. الواضح، إذن، أن تجارب الثبات ما زالت تعاني الكثير من المشكلات الطرائقية.

يرجع بعض الخلاف حول ما إذا كان لصغار الأطفال مفهوم واضح عن العدد إلى الفشل في الاعتراف بوجود مستويات مختلفة من المفاهيم. لأبناء الثالثة والرابعة مفهوم إجمالي للعدد حيث يحكمون على العدد أو الكم في إطار "الجمع" الإدراكي وليس في إطار التوحيد الإدراكي. يعرض أبناء الرابعة ونصف حتى الخامسة ونصف في المرحلة التالية مفهوماً أكثر وضوحا للعدد حيث يبدؤون بإدراك وجود صيغة ما للوحدة التركيبية. أما في المرحلة الثالثة التي تمتد بين الخامسة ونصف والسادسة ونصف فيستخدم الأطفال مفهوماً صحيحاً للعدد حيث يقيمون بسرعة ودون خطأ مطابقة متناظرة. يمتلك أطفال المرحلة الأخيرة مفهوماً تركيبياً توحيدياً للعدد، لأن تقديرهم للعدد يتوقف على عد العناصر الفردية. ويبدي الأطفال بصدد نمو مفهوم "الصنف" نمطاً نمائياً يماثل نمط نمو العدد. فإذا أعطي الصغار أشكالاً هندسية ملونة مثل الدائرة والمثلث والقوس والمستطيل وسئلوا تصنيفها على أساس تماثلها، فإنهم يقيمون مجموعة خطية، أي أنهم يقيمون أشياء مثل المنازل ولا يصنفون أشياءهم على أساس خواصها. وفي مرحلة ثانية مقابلة للمرحلة التبصيرية في نمو العدد، يجمعون أشياءهم في إطار الشكل، غير أنهم يتذبذبون بعض الشيء فيجمعون خمسة مثلثات ومستطيل. أما في المرحلة الأخيرة فيرتب الصغار أشياءهم بحسب الشكل واللون.

نمو اللغة


يكون نمو اللغة في مرحلة ما قبل المدرسة مذهلا، إذ ينتقل الطفل من لعثمة كلمة واحدة خلال السنة الأولى من الحياة إلى البناء اللفظي الكامل في السنة الرابعة أو الخامسة. وتتضارب الآراء حول طبيعة الانقلاب اللغوي المذكور وآليات حدوثه، غير أن الباحثين جميعاً يتفقون على أن الدراسات النمائية التي تتعلق بكيفية اكتساب الطفل للغة وكيفية استخدامها، إنما تشكل المنهج الملائم لفحص نمو اللغة. لذلك فإن أكثر الأبحاث تستخدم دراسات طولانية مع عدد من الصغار بهدف تتبع نمو اللغة. سوف نحاول هنا مراجعة بعض جوانب النمو اللغوي خلال سنوات ما قبل المدرسة، إضافة لعرض بعض النظريات التي تحاول تفسير ذلك النمو.



اكتساب اللغة

يعد طول اللفظة اللغوية أهم أبعاد النمو اللغوي الذي حظي بأكبر قسط من اهتمام الباحثين. تطول لفظة الطفل بازدياد سنه، وتعد العبارة المكونة من كلمتين مثل "ماما اشرب"، تحسناً ملحوظاً في فعالية الاتصال، إذ يستطيع ثنائيو العبارة اختيار أي تركيب من فاعل وفعل أو مفعول به. غير أن وحدة الفاعل والفعل تبقى أكثر التراكيب شيوعاً. ويزداد تباين البنى اللغوية بتقدم أبناء الثالثة والرابعة إلى التجميع المركب من أربع كلمات، فيستخدم بعضهم أنفسهم وكلاء لأداء الشيء والفعل وتتخذ جملهم صيغة "أنا أقذف الكرة"، "أنا أريد الحلوى". وتعترف فئة ثانية من الأطفال بوجود آخر يفعل أو يريد فتتخذ جملهم صيغ بابا يريد، أو ماما تغير الشراشف. تقوم، إذن، فروق واضحة متميزة في كيفية اكتساب الأطفال للغة، وخاصة في الفترة التي يطول فيها التركيب وتتعدد مفرداته وتتنوع بناه. ثم إن مفردات اللغة ذاتها تتسع موزعة بين مفردات نشطة وأخرى خاملة مختزنة. وعلى الرغم من صعوبة تقدير حجم لغة الطفل، فإن بعض الباحثين يقدرون عدد المفردات الخاملة المختزنة لأبناء الرابعة بعدة آلاف مفردة. ويقل عدد المفردات النشطة المستخدمة عن هذا العدد كثيراً. وليس لاكتساب مختلف أنواع المفردات صيغة موحدة، إذ تكتسب بعض المفردات أبكر من غيرها وتكتسب فئة ثانية بصورة أسهل من بقية المفردات. تركز الدراسات اللغوية في الوقت الحاضر اهتمامها في كيفية اكتساب نوع محدد من المفردات وخاصة منها المضادات "أكثر" و"أقل". وجد أن الصغار يفهمون كلمة أكثر دون أن يميزوها من كلمة أقل، إلا أن تلك النتائج لم تتأكد في كل الدراسات.

درس أيضاً مفهوم الزمن لدى الطفل، وبدا أن للطفل مفاهيم دقيقة حول الزمان والمكان، وينعكس فهمه لتلاحقات الزمن في لغته، فيبدأ فهم كلمة "قبل" و"بعد" خلال فترة ما قبل المدرسة، على الرغم من فهمه "لقبل" أبكر من فهمه "لبعد". إلا أن بعض الأطفال يخلطون المفهومين ويعدونهما مترادفين. والطريف أن يفهم الأطفال "أمس" أكثر من "غد". وليس لأبناء الثالثة والرابعة مصاعب في فهم الحروف المحددة وغير المحددة فهم يستخدمونها بصورة جيدة.


النظريات التي تفسر النمو اللغوي



برز عدد من النظريات المتباينة لإيضاح نمو القابليات اللغوية لدى الأطفال. تستطيع أي من تلك النظريات الإسهام بقدر ما في إيضاح النمو اللغوي وفهمه، دون أن تبلغ أي منها درجة من الشمولية حيث تستطيع إيضاح كل جوانب النمو اللغوي.

تشير إحدى النظريات إلى أن النمو اللغوي يعكس نضجاً في البنى اللغوية التي هي على درجة من الفطرية، وذلك بسبب عموميتها لدى كل أفراد الجنس البشري. مقدر للأطفال، طبقاً لهذه النظرية، أن يتكلموا لغة تحددها البيئة الاجتماعية للطفل. يستخدم الطفل، لتعلم لغته، اللغة، لا الملامح العامة للغة ومجموعة فرضيات تمكنه من تعلم الجوانب الفريدة في لغته. يولد الطفل، برأي تلك النظرية، ومعه بعض القدرات اللغوية. وقد دعمت بعض الدراسات المقارنة هذه النظرة.

يقف في الطرف الثاني أولئك الباحثون الذين يعتقدون بأن اللغة تكتسب كلياً بالتعلم، ويرجع ما يتعلمه الطفل إلى تطويع ما يسمعه من الآخرين. فالسلوك اللغوي، شأن كل أنواع السلوك، يتعلم بضرب من التعزيز. أكدت نتائج أكثر الدراسات أن مفردات الطفل تزداد بازدياد استعداد الراشد للتحدث إليه. وتؤكد النظرية الثالثة في النمو اللغوي أهمية نشاط الطفل في تعلم اللغة. يرى أصحاب هذه النظرية أن النمو اللغوي مماثل للنمو المعرفي الإدراكي. فيتعلم الطفل المفردات والبنى الصرفية للتعبير مع تعلمه الاكتشاف النشط لمحيطه. وكما سبق أن أشرنا، يعرف الطفل أن الأشياء توجد، وتختفي، وتظهر. وهي تجربة يجب أن تخضع للترميز اللغوي. فتعلم الاسم يشير إلى وجود الشيء وعبارة "كل شيء ولى" تشير إلى اختفاء الشيء وعبارة "المزيد من الحلوى" تشير إلى ظهور الشيء من جديد.

يتوفر في نمو الطفل اللغوي وقائع تدعم كل النظريات السابقة، ويبدو أن لكل منها جانباً من قول الحقيقة. أما الحقيقة كلها، فلا بد أن تقوم في شرح هذه النظريات في نظرية رابعة أوسع وأدق من كل ما قد اقترح.



مهارات الاتصال الدلالي


اللغة في جوهرها أداة اتصال، إذ يتمثل أهم جوانب النمو اللغوي في القابلية المتصاعدة لدى الطفل لاستخدامه اللغة للتعبير عن أفكاره. ولا يتم الاتصال المجدي إلا إذا أخذ المتحدث توقع السامع بعين الاعتبار. ثم إن فهم توقعات الآخر مهارة يجب إضافتها إلى مهارة اكتساب اللغة وتسمى بمهارة الاتصال الدلالي.

كان بياجي أول من اهتم بمهارات الاتصال الدلالي، إذ لاحظ في أعماله المبكرة أن الأطفال غالباً ما يتحدثون عن بعضهم، وليس إلى بعضهم، إذ تكون الكلمة لاحقاً بالفعل وليس وسيلة اتصال أو محاولة لأن تكون وسيلة اتصال. ربما قال ابن الثالثة: "أمي اشترت لي هذا الحذاء"، أو قال رفيقه: "هذا البليد لم لا يكتب جيداً؟".

دعا بياجي تلك اللغة بالقوقعية ولاحظ أنها تشكل جانباً كبيراً من لغة الصغار عندما يتحدث بعضهم إلى بعض ولكنها تضعف عندما يتحدثون إلى الراشد. عرف بياجي القوقعية بالعجز عن أخذ وجهة نظر الآخر أو توقعاته بعين الاعتبار في المخاطبة. توصل بياجي إلى نظريته بطريق ملاحظاته الطبيعية. وأكد الباحثون الذين استخدموا تجارب الاتصال الدلالي ملاحظات بياجي، وعرضت على الأطفال في إحدى التجارب أشكال هندسية وسئلوا تسميتها. فسمى الصغار الأشكال بسهولة "تفاحة"، "قط"، وكان في مقدورهم تلبية طلب الباحث إذ سماها وسألهم انتقاءها له. أيعطي هؤلاء الصغار للأشكال الهندسية أسماء ذاتية؟ لكن الأسماء ليست ذاتية بالنسبة لطفل يسمي الشيء ويتعرف عليه.

درّب الصغار على إعطاء أسماء للأشياء، ورتبوا في أزواج وأجلسوا إلى الطاولة بعضهم قبالة بعض بعد أن وضع حاجز بين وجهي الطفلين. أعطى كل طفل مجموعة من الأشكال الهندسية، وكان عليه أن يلتقط شكلا ويسأل شريكه تسميته له. لم يصف أبناء الثالثة والرابعة الشكل بل أعطوه الاسم الذاتي، ولم يفهموا أن الاسم لم يكن يعني شيئاً للطفل الآخر. أما أطفال السادسة أو السابعة فكانوا يصفون الأشكال حيث يستطيع الطفل السامع التعرف على الشيء الذي اختاره المتحدث.

وعلى الرغم من أن للأطفال بين الثالثة والخامسة مصاعب في الاتصال بالآخر عندما يمتلك وجهة نظر مغايرة، إلا أنهم يمتلكون ضرباً، ولو فجا، من مهارات الاتصال الدلالي، يبسّط ابن الرابعة لغته عندما يتحدث إلى ابن الثانية ولا يفعل ذلك عندما يتحدث إلى الراشد، ويستطيع الأطفال أحياناً إدراك فروق التوقعات بينهم وبين الآخر.


هناك تعليقان (2):

  1. منصور رابح اليونان5 أبريل 2014 في 11:35 ص

    شكرا سادتي على ما تبذلونه من جهود في سبيل نشر ثقافة تربوية

    ردحذف
    الردود
    1. بوركت أخي رابح نحن فخورين بك كقاريء لمدونتنا

      حذف