قم بزيارة هذه الصفحات

العنف ضد الأطفال

إعداد بركات وهاب
ضرب الطفل أو لطمه هو بشكل من الأشكال نوع من التواصل معه، لكن ما الرسالة التي تُنقل له عند ضربه؟ إن المعارف الراهنة حول نمو الدماغ لا تترك مجالا للشك في أن العنف التربوي، مهما كان خفيفا، تكون له نتائج مدمرة. وقد أدركت الهيئات الدولية أن التقليل منه يمكن أن يساهم في نشر السلام، لكن شريطة إقناع الرأي العام والدول بذلك.

رسائل العنف التربوي المدمرة
نعتقد عادة أن الغاية من لطمة أو ضربة هي ببساطة ردع الطفل وصرفه عن تكرار سلوك مذموم. لكن الرسالة الإيديولوجية التي ينقلها ذلك للطفل أعقد من ذلك وأخطر بكثير. ولأننا نشكل قدوة لأطفالنا، فإن الضربة أو اللطمة ترسخ، دفعة واحدة، في أذهانهم درسا في فساد الأخلاق واللاديمقراطية، فهي تعلمهم:
-أننا حين نختلف في الرأي مع شخص آخر، يحق لنا ضربه، حتى وإن كنا نحبه.
-حين يكون المرء كبيرا وقويا، يحقّ له ضرب من هو أصغر منه وأضعف.
-عندما يضربك أحد أو يتوعّدك، ينبغي أن تخضع له.
-العنف أمر سيء، لكنه مفيد أيضا، لأن الطفل لا يُضرب إلا من أجل مصلحته.
مثل هذه المبادئ لا يمكن إلا أن تحدث خللا في بوصلة الطفل الداخلية، وتجعل من المتعذر عليه التمييز بين الصواب والخطأ، بين الخير والشر. فهي تجعله ضعيفا أمام كل أشكال الدعاية وزعماء عصابات الأحياء ودعاة الإرهاب. وسيبدو له تعنيف الآخرين لصالح حزب أو ديانة أو أمة، أو لمصلحته الشخصية، أمرا عاديا: فهذا ما علّمه الأشخاص الذين يقتدي بهم لسنوات طويلة لما كان دماغه في طور التشكل.
ويمكن أن يمضي بعيدا في العنف، لأن للعنف التربوي أثرا آخر هو إضعاف الشعور بالتعاطف.
التعاطف هو الأساس الفطري لحب الغير
نملك نحن بني الإنسان، وكذلك الحيوان، قدرة على التعاطف تمكننا من تمثّل مشاعر الآخرين وفهمها، ومن ثمّ اعتبار الآخر شبيها لنا، وهذه هي قاعدة الغيرة العاطفية.
لقد بينت التجارب التي أجريت على القرود أنهم قادرون على الإعراض عن الطعام إذا كان الحصول عليه سيؤذي أفرادا آخرين من جنسهم. فقاعدة الأخلاق الذهبية هذه: لا تعامل الآخرين بمثل ما لا ترغب في أن يعاملوك به، موجودة عندنا نحن أيضا إذا لم تجتثها منا التربية بواسطة رسائل وأمثلة تناقضها. والحال أن على الطفل الذي يعاقبه والداه بشكل مبرّح أن يتحصّن ليستمر في الحياة، وينغلق على مشاعره الخاصة. وبهذه الكيفية تتعطّل عليه القدرة على التعاطف مع الآخرين، وعندها تصير كل الأنساق الأخلاقية وكل الديانات مجرد بدائل اصطناعية، عاجزة عن أن تبث روح الإيثار وقت الأزمات في نفسه. الأدهى من ذلك أنها قد تتحول إلى إيديولوجيات تبدو فيها التضحية بالغير، رجالا ونساء وأطفالا، أمرا طبيعيا، لأنه لم يعد يشعر بهم كأشباه له من الناحية العاطفية.
هكذا رأينا كيف أن أحد أكثر شعوب أوروبا تربى على السلطوية والعنف، ارتكب أو سمح بارتكاب إحدى أبشع عمليات الإبادة تحت إمرة هتلر الذي عاش طفولة حطمها عنف الأب وإهاناته. وهذا ما أثبتته «أليس ميللر» (Alice Miller) في كتابها «هذا من أجل مصلحتك»، حيث توصلت من خلال أبحاثها حول طفولة طغاة القرن العشرين، سواء تعلق الأمر بستالين أو ماو أو تشاوشيسكو، إلى أنهم كانوا جميعا ضحايا العنف التربوي.
النتائج الدنيا للعنف التربوي:
لكن هناك من قد تراوده الفكرة الآتية: «بالرغم من أنني تعرضت للضرب، لم أصر مع ذلك مجرما!»
من حسن الحظ أن الآثار المدمّرة للعنف التربوي على الدماغ وعلى النفسية غالبا يصلحها لقاء أشخاص يسمحون للأطفال، عبر حنانهم واحترامهم، باستعادة جزء من تقديرهم لأنفسهم، وبأن يكون لهم سلوك متوافق مع المبادئ الأخلاقية المقبولة في علاقتهم مع الراشدين.
لكننا إن لم ننظر لنتائج العنف التربوي الدنيا، التي تكاد تكون مضمونة، بوصفها شيئا مؤذيا، فمعنى هذا أننا نتعامى عن تناقضاتنا، لأن هذا العنف عطّل حسّنا الأخلاقي والمنطقي.
هكذا سنشعر بالإهانة إن لطمنا شرطي عند ارتكاب مخالفة لقانون السير، وسنشعر بالامتعاض كذلك لو رأينا أحد العاملين بدار للعجزة يضرب إحدى النزيلات لأنها ترفض الأكل أو الاغتسال بسبب تقدمها في السن وتدهور قدراتها العقلية، مع العلم أن سبب سلوكات أطفالنا أيضا هو صغر سنّهم وعدم نضج دماغهم.
وليس من الضروري أن يعامل المرء معاملة بالغة السوء لكي يسقط في هذا التناقض. فالطفل الذي يتعرض للضرب الخفيف العادي منذ طفولته المبكرة لا يرى فيما بعد أي حرج في ضرب الأطفال الآخرين، لأنه صار بالغ التسامح مع العنف.
هل هناك إمكانية لخفض العنف؟
إن الوعي بهذا التناقض وبالأضرار التي سببها العنف التربوي يمكن أن يؤثر في مستقبل العالم. فمنذ آلاف السنين والناس يتعرضون، خلال مرحلة تشكل أدمغتهم، للتعنيف والضرب. وقد أكد عالم البيولوجيا العصبية «أنطونيو دامازيو» المذكور سالفا، أن مظاهر العنف لدينا، والتي تفوق بكثير ما قد تمارسه الحيوانات على أبناء جنسها، يمكن أن يكون سببها هو هذه المعاملات التي نعامل بها الأطفال.
إن منع كل ضروب العنف التربوي، ومساعدة الآباء على تبني طرائق تربوية خالية من العنف هو أنجع السبل على الأرجح للتخفيض من العنف الإنساني.
وتتحد اليوم اليونيسيف والمنظمة العالمية للصحة ولجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة والمجلس الأوروبي من أجل إقرار هذا المنع في كل دول العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق